31/10/2010 - 11:02

انحطاط معولم / عامر راشد*

انحطاط معولم  / عامر راشد*
يتفق معظم رجال الثقافة والاقتصاد والسياسة وعلم الاجتماع على أن أحد أخطر إفرازات العولمة حسب المفهوم الأمريكي هو محاولة فرض " حضارة التنميط"، بما تحمله في المحصلة النهائية من انحطاط أخلاقي وثقافي وتدهور اقتصادي ، وتدمير بيئي وغياب للعدالة الاجتماعية، وتسليع كل شيء لدرجة باتت تهدد معها إنسانية الإنسان، ومع تسارع عمليات العولمة في هذا السياق والشكل الذي يتم محاولة فرضه فإن بعض القيم الإنسانية السامية التي شغلت مساحات واسعة من الفكر الإنساني وتطبيقاته العملية طويلاً بما هي حاجات ملحة ومطالب عادلة معبراً عنها بمصطلحات مثل " التحرر" و " التنمية الاقتصادية المستقلة " و " التقدم " لم يبق لها حسب وجهة النظر الأمريكية أي معنى، بل وأكثر من ذلك باتت مستهدفة في زمن العولمة، لأنها وحسب زعمهم تمثل حجر عثرة، وإزالتها شرط لازم للتقدم إلى أمام. لقد شق هذا المفهوم المدمر طريقه بما للولايات المتحدة الأمريكية من سطوة وقوة اقتصادية وسياسية وعسكرية ونفوذ، وأصبح ( نادي الدول الأغنى والأقوى ) يتجاهل وعلى نحو خطير مشكلات البلدان النامية، ومعاناة وحقوق الشعوب التي ما تزال واقعة تحت سطوة الاحتلال المباشر مثل الشعب الفلسطيني والذي تمثل قضيته استثناء، ومشكلات الشعوب ودولها ذات الاستقلال المنقوص واقع حال معظم شعوب ودول آسيا وأفريقيا وأمريكيا اللاتينية.

خدمة لمصالحها دأبت طغمة السوق المعولمة على تشويه المفاهيم عن عمد، فبدأت تخلط بين الإرهاب وبين حق الشعوب المشروع في الدفاع عن أوطانها والحفاظ على استقلالها ومصالحها الوطنية، بل وأكثر من ذلك بدأت بالتعدي على الحقوق الشخصية للإنسان وفي مقدمة ذلك حقه في اختيار المعتقد الديني وأداء شعائره الدينية بحرية، والتعدي يشتمل تقييد حق الإنسان في اختيار ملابسه إذا فهم منها دلالة دينية مثال ذلك معركة ارتداء الحجاب في فرنسا وبعض الدول الأوروبية الأخرى . إن أخطر ما في الموضوع وفي سياق محاولة تثبيت مغالطة "صراع الحضارات" تجري محاولة إكساب هذا الصراع بعدا دينيا، فالرئيس بوش الابن لا يتردد عن تكرار أن حربه ضد شعب العراق هي تلبية لهاتف السماء الذي أوحى له بما يشبه الأمر بخوض هذه الحرب المقدسة، وفي مقابل محاولة إضفاء صفة النبوة على بوش الابن وحروبه الغبية على حد وصف المفكر الراحل إدوارد سعيد تقدم ماكينة الإعلام الأمريكية الجبارة صورة أسامة بن لادن كنموذج للمسلم الخارج على ناموس البشرية لاعتناقه وتطبيقه التعاليم الإسلامية المشبعة بالكراهية أساس الإرهاب حسب دعايتهم المضللة هذه، وكرد فعل مقابل يقع البعض في الشرك المنصوب لهم فيروجون لمغالطة إضفاء الطابع الديني على حرب بوش الابن القذرة على الشعوب العربية من بوابة الاحتلال الأنكلو- أمريكي الغاشم للعراق وذلك بوصفهم لهذه الحرب بـ " الصليبية "، في إسقاط تاريخي بالغ الضرر يحاول استحضار المصطلح الخاطئ الذي أطلق على حروب أوروبا الإقطاعية الاستعمارية في القرون الوسطى ضد البلدان العربية ( المشرقية منها على وجه الخصوص ). إن التصدي للتشويه المتعمد للمفاهيم يتطلب أولا إدراك أن حرب إدارة بوش وحلفائها على العراق وموقفها من القضية الفلسطينية ما هي إلا نتاج طبيعي لعدم تسليم اليمين الأمريكي المتصهين الحاكم بحق الشعوب في تقرير مصيرها واستقلالها وحماية ثقافتها وقيمها الاجتماعية، بما هي انعكاس لخصوصيتها المجتمعية والحضارية وحقها في الحياة، وبأن الحفاظ على التنوع الحضاري للشعوب شرط ضروري للحفاظ على الحضارة الإنسانية وتطورها اللاحق . من هنا يمكن القول بأن شعوبنا وحكوماتها يجب أن تبحث عن موقعها إلى جانب من يمارسون مختلف أشكال النضال – حكومات وشعوبا – لتحقيق الديمقراطية والسلم العالمي ونزع فتيل الحروب المدمرة التي تفجرها السياسات العدوانية الأمريكية. إن مواجهة الهجمة الأمريكية الشرسة وغير المسبوقة ممكن جدا لأن جبهة المعركة مع محاولة فرض سيطرة القطب الأمريكي الأوحد لإرادته أوسع بكثير مما يحاول الإعلام الأمريكي تصويرها وحصرها ضمن أكذوبة " تحالف العالم المتحضر في وجه الإرهاب "، وإن بدت المعركة في الشرق الأوسط أكثر سخونة وشراسة على ضوء الحرب الأمريكية المفتوحة على شعوب المنطقة – احتلال العراق، دعم الاحتلال الإسرائيلي وممارساته ضد الفلسطينيين العزل، محاصرة سوريا( قانون المحاسبة)، إعادة فك وتركيب المنطقة تحت مسمى نشر الديمقراطية – يجب عدم التقليل من أهمية المعارك التي تخوضها أوروبا ضد مشاريع الهيمنة الأمريكية حفاظا على مصالحها وخصوصيتها الحضارية والثقافية وحقها في التنمية المستقلة. إن اتساع جبهة المقاومة العالمية لمحاولات فرض الهيمنة الأمريكية اقتصاديا وثقافيا وسياسيا سيؤدي في النهاية إلى محاصرة النهج غير المسؤول للإدارات الأمريكية التي ما زالت لعقود عدة تقود الرأسمالية العالمية المتوحشة.

ضمن الدور الملقى على عاتقنا تقع مهمة فضح الأضاليل التي تحاول الصهيونية العالمية إشاعتها مستغلة في ذلك الماكينة الإعلامية الأمريكية الجبارة التي تحولت إلى صناديق أكاذيب تبث سمومها في جهات العالم الأربع موظفة في ذلك ثورة الاتصالات والمعلوماتية التي فتحت الفضاء واسعا أمام العولمة. إن أحد شروط المجابهة هو تحصين الذات وهذا لا يكون إلا بتحصين مجتمعاتنا بما يضمن التعددية السياسية والفكرية عبر إطلاق الحريات الديمقراطية بما يحفظ كرامة الوطن والمواطن، مع ملاحظة أن الكثير من ركائز الدعاية المعادية المغرضة ضد شعوبنا لا تنطلق من فراغ، ولعل غياب الديمقراطية عن مجتمعاتنا أهم مصدر يغذيها. الديمقراطية شرط لازم حتى نستطيع أن نواجه مخاطر فرض المفهوم الأمريكي للعولمة، وتجاوز هذا نحو دور فاعل يستفيد من فوائد العولمة بطابعها الإنساني عبر مفهومها الأوسع والأشمل.


___________
* كاتب فلسطيني يقيم في دمشق.

التعليقات